... أرخص ليالي من مجموعة أرخص ليالي 1954 | مدونة عالم المعرفة
Subscribe via RSS
| ]

بعد صلاة العشاء كانت خراطيم من الشتائم تتدفق بغزارة من فمعبدالكريم فتصيب آباء القرية وأمهاتها،
وتأخذ في طريقها الطنطاويوأجداده.
والحكاية أن عبدالكريم ما كاد يخطف الأربع ركعات حتي تسلل من الجامعومضي في الزقاق الضيق وقد لف
يده وراء ظهره وجعلها تطبق علي شقيقتها في ضيق وتبرم،وأحني صدره في تزمت شديد وكأن أكتافه
تنوء بحمل (البشت) الثقيل الذي غزله بيده منصوف النعجة.
ولم يكتف بهذا بل طوي رقبته في عناد وراح يشمشم بأنفه المقوس الطويلالذي كله حفر سوداء صغيرة،
ويزوم، وقد أطبق فمه فانكمش جلد وجهه النحاسي الأصفر،ووازت أطراف شاربه قمم حواجبه التي كانت

ماتزال مبللة بماء الوضوء.
والذي بلبلكيانه، أنه ما ان دخل إلي الزقاق حتي ضاعت منه ساقاه الغليظتان المنفوختان، ولم يعديعرف
موضع قدميه الكبيرتين المفلطحتين اللتين تشقق أسفلهما حتي يكاد الشق يبلعالمسمار فلا يبين له رأس.
ارتبك الرجل رغم القسوة التي ضم بها نفسه لان الزقاقكان يمتليء بصغار كالفتافيت يلعبون ويصرخون،
ويتسربون بين رجليه، ويسرح واحد منبعيد وينطحه، ويشد آخر (البشت) من ورائه، ويصيبه شقي
بصفيحة في اصبع قدمه الكبيرةالنافرة عن بقية أصابعه.
ولم يستطع إزاء هذا كله إلا أن يسلط عليهم لسانه، فيخربالبيوت فوق رؤوس آبائهم وأجدادهم، ويلعن
الداية التي شدت رجل الواحد منهم، والبذرةالحرام التي أنبتته.
ويرتعش عبدالكريم بالحنق وهو يسب ويمخض ويبصق علي البلدالخائب الذي أصبح كله صغار في صغار.
ويتساءل، و(بشته) يهتز، عن معمل التفريخ الذييأتي منه من هم أكثر من شعر رأسه. ويزدرد غيظه وهو
يطمئن نفسه أن الغد كفيل بهم،وأن الجوع لامحالة قاتلهم، و(الكوريره) سرعان ما تجيء فتطيح بنصفهم.
وتشهدعبدالكريم وهو يشعر براحة حقيقية حين خلف النحل وراءه في الزقاق وأصبح يشرف عليالواسعة
التي تحيط بالبركة في وسط البلد.
وانبسط الظلام الكثير امامه حيث تعششالبيوت المنخفضة الداكنة، وترقد أمامها أكوام السباخ التي طال
عليها الإهمال،ولاشيء بقي يدل علي الأحياء المكدسين تحت السقوف إلا مصابيح متناثرة في
الدائرةالمظلمة الواسعة وكأنها عيون جنيات رابضات يقدح منها الشرر!، ويأتي نورها الأحمرالداكن
متبخترا من بعيد ليغرق في سواد البركة.
وتشتت بصر عبدالكريم في الظلامالفاضي، ودار برأسه هنا وهناك، ورائحة الماء الصديء في المستنقع
تتلوي مع تقوسخياشيمه. وفي الحال شعر بالضيق يكتم فتات أنفه، فشدد من قبضة يده، وزاد انحناءه،وكاد
يرمي (بالبشت) علي حافة البركة.
وكان ما ضايقه وكتم أنفاسه شخير الأرانبأهل بلده، وهو يمتد مع انتشار الظلام، ولحظتها كان ما يلهلب
سخطه أكثر هو طنطاويالخفير، وكوب الشاي (الزردة) التي عزم عليه بها في حبكة المغرب، والتي لولا
دناوته،وجريان ريقه عليها، ما ذاقها.
وتمشي عبدالكريم في الواسعة وأذنه لاتسمع حسا ولاحركة، ولا حتي صيحة فرخة، وكأنه وسط جبانة
وليس في رحاب بلدة فيها ما فيها من خلقالله.
وحين بلغ منتصف الواسعة توقف. وكانت لوقفته حكمة، فهو إذا أطاع ساقيهومشي، أصبح بعد خطوات
قليلة في قلب بيته. وإذا أغلق دونه باب الدار، كان عليه أنيخمد أنفاسه وينام. وهذه اللحظة لم تكن في
عينيه قمحة واحدة من النوم، بل كان مخهأروق من ماء) الطرمبة)، وأصفي من العسل الأبيض، ولا يهمه
السهر ولو لهلالرمضان.
وكل هذا بسبب دناوته، وسواد الشاي في الكوب، وأفعوانية طنطاوي وبسمتهالزرقاء، ودعوته التي لم يفكر
في رفضها..
ليس هناك نوم؟.. طيب.
ورجال البلدةالخناشير قد انكفأوا يغطون من زمان، وتركوا الليل لصغارهم الملاعين! فماذا يفعلعبدالكريم؟
يسهر؟ وأين يسهر؟..
صحيح؟!.. أين يسهر؟..
هل يلعب (الاستغماية (مع الأولاد؟..
أو تزفه البنات وهن يقلن: يابوالريش.. إنشا الله تعيش؟
صحيح ..أين يسهر وهو أنظف من الصيني بعد غسيله، وليس معه قرش صاغ واحد حتي يذهب إلي
(غرزة (أبوالإسعاد ويطلب القهوة علي البيشة، ويتبعها بكرسي الدخان، ويجلس ما شاء بعد ذلكعلي ريحة
القهوة والكرسي، يراقب حريفة (الكوتشينة) من صبيان المحامين، ويستمع إليما لايفهمه في الراديو،
ويضحك ملء قلبه مع السباعي، ويلكز أبوخليل وهو يقهقه، ثمينتقل إلي مجلس المعلم عمارة مع تجار
البهائم، وقد يشارك في الحديث عن سوقها التيركدت ونامت..
ليس معه قرش!.. جازاك الله ياطنطاوي..!
وهو لايستطيع أن يخطفرجله إلي الشيخ عبدالمجيد، حيث يجده متربعا والمدفأة أمامه، والكنكة النحاسية
تغليوتوشوش علي مهل، والشيحي جالس بجواره، يقص بكل ما في صوته من رنين، ما حدث فيالليالي
التي شاب لها شعره، والأيام التي انقضت وأخذت معها بصاغته من عقول الناسالقدامي الفارغة الطيبة،
وجعلته يتوب عن النصب والسرقة وقلع الزرع علي أيديالنماردة من سكان هذا الجيل.
لايستطيع أن يتنحنح ويطرق باب الشيخ عبدالمجيدلأنه، أول الأمس فقط، دفع الرجل من فوق مدار الساقية
فأوقعه في الحوض، وأضحك عليهالشارد والوارد، لما دب الخلاف بينهما علي مصاريف إصلاح الساقية.
ومن ساعتها ولسانالشيخ لايلافظ لسانه.
كان الشيطان ساعتها شاطرا.. ولكن طنطاوي بدعوته أشطر ..الله يخرب بيتك ياطنطاوي..
وماذا عليه لو سحب عصاته (المشمش) ذات الكعب الحديدومر علي سمعان، وانطلقا إلي عزبة البلابسة،
فهناك سامر، وليلة حنة، وغوازي، وشخلعة،وعود، وهات إيدك..
وإنما.. من أين ياعبدالكرم (النقطة)؟ ثم.. المساء قد دخلويجوز أن سمعان ذهب يصالح امرأته من خالها
والطريق خائنة، والدنياكحل..
ياناس!.. لماذا هو الخائب الساهر وحده؟ وطنطاوي لاشك قد استنظف مصطبة رقدعليها في (دركه)، وراح
في النوم.. نامت عليه البعيد أثقل حائط.
وماذا يحدث لوعاد إلي بيته هكذا كالناس الطيبين، ولكز امرأته فأيقظها، وجعلها تنير المصباح،وتمسح
زجاجته، وتشعل الموقد، وتسخن له رغيفا وتحضر الفلفل الباقي من الغداء، وحبذالو كان قد بقي شيء من
الفطيرة التي غمزتها بها أمها في الصباح، وآه لوصنعت له بعدهاكوزا من الحلبة، وجلس كسلطان زمانه
يرقع الثلاثة مقاطف التي بليت مقاعدها ويصنع لهاآذانا وقد تملصت آذانها؟..
ماذا يحدث بالله إذا كان هذا؟..
هل تنتقل المحطةمن مكانها؟..!
هل يعمل العمدة ليلة لوجه الله؟..
وهل تنطبق السماء علي جرنالقمح؟..
أبدا.. لن يحدث شيء من هذا..
ولكنه أعرف الناس بامرأته، وأعرف منشمهورش برقدتها كزكيبة الذرة المفروطة وقد تبعثر حولها الصغار
الستة كالكلابالهافتة، ولن تصحو حتي لو نفخ إسرافيل في نفيره، وإذا تفتحت ليلة القدر وقامت
فماذاتفعل؟..
أهو يحاول الضحك علي نفسه؟..
وهل الذي يزمر يغطي ذقنه؟..
المصباحبالعربي ليس فيه (جاز) إلا ما يملأ نصفه، والمرأة في حاجة إليه كله لتعجن وتخبز طولالليلة الآتية
إذا عاش أحد. ثم الأولاد لاريب قد جاعوا ساعة المغرب، وأكلوا الفلفلوبآخر رغيف في (المشنة.(
وهل تبقي فطيرة الصبح لتنتظر سهرته؟.. وعليه أن يطمئننفسه، فلك الحمد، ليس في داره حلبة ولاسكر،
ولايحزنون..
ولن يستطيع طول عمره أنيحظي بكوب مثل التي لحسها لحسا عند طنطاوي..
الله يجحم روحك ياطنطاوي يابنزبيدة..!
***
ولو أن أحدا عن له أن يقضي حاجته في الواسعة، رأيعبدالكريم في وقفته، مزروعا كزوال المقاتة أمام وجه
البركة الداكن، لظن في التو، أنالرجل مسه شيطان أو لبسته شيخة!
وعبدالكريم معذور، فالحيرة التي كان فيها أوسعمنه، والمسألة أنه رجل علي نياته، لايقرأ الليل ولايكتبه،
والجيب خال، والليلةشتاء، والشاي يكوي رأسه، وجهلة السهر من أمثاله قد غيبهم النوم من سنة مضت
في سابعأرض.
طالت من أجل ذلك حيرة الرجل، وطال وقوفه، وأخيرا فعلها وقر قراره.
وقطعالباقي من الواسعة في استسلام وقد رأي أن يقضي ليلته كما اعتاد قضاء البارد منلياليه..
وأخيرا استقر في وسط داره، وقد أغلق الباب بالضبة وراءه .وتخطي أولادهوهو يزحف في الظلام علي
قبوة الفرن حيث يتناثرون. ومصمص بشفتيه وهو يئن منهم ومنالظلام، ويعتب بينه وبين نفسه علي الذي
رزقه بستة بطون تأكل الطوب.
وكان يعرفطريقه، فطالما علمته ليالي البرد الطريق. وعثر آخر الأمر علي امرأته. ولم يزغدها،وإنما أخذ
يطقطق لها أصابع يديها، ويدعك قدميها اللتين عليهما التراب بالقنطارويزغزغها في خشونة بعثت اليقظة
المقشعرة في جسدها.
وصحت المرأة علي آخر لعنةأصابت طنطاوي في ليلته.
وسألته في غير لهفة وفمها يملؤه التثاؤب عما جناه الرجلحتي يسبه في عز الليل.
فقال وهو ينضو ثيابه، ويستعد لما سيكون:
هه.. اللهيخرب بيت اللي كان السبب..
***
بعد شهور كانت النساء كالعادة يبشرنه بولد جديد، وكان هويعزي نفسه علي السابع الذي جاء في آخر
الزمان، والذي لن يملأ طوب الأرض بطنه هوالآخر..
وبعد شهور وسنوات كان عبدالكريم لايزال يتعثر في جيش النمل من الصغارالذين يزحمون طريقه في ذهابه
وأوبته وكان لايزال يتساءل كل ليلة أيضا، ويداه خلفظهره، وأنفه يشمشم حوله، عن الفتحة التي في
الأرض أو السماء، والتي منها يجيئون..!
بيت