... (... وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ *) | مدونة عالم المعرفة
Subscribe via RSS
| ]

بسم الله الرحمن الرحيم
من أسرار القرآن :
(380) - (... وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ *)
 (إبراهيم:5).
بقلم
الأستاذ الدكتور/ زغلول راغب النجار
   هذا النص القرآني الكريم جاء في أوائل سورة "إبراهيم", وهي سورة مكية, وآياتها ثنتان وخمسون (52) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم تشريفا وتكريما لعبد الله ونبيه إبراهيم- عليه السلام- ويدور المحور الرئيسي لهذه السورة حول قضية العقيدة الإسلامية, شأنها في ذلك شأن كل السور المكية. وقد سبق لنا استعراض هذه السورة المباركة وما جاء فيها من ركائز العقيدة والإشارات العلمية, ونركز هنا على وجه الإعجاز التربوي في التذكير بأيام الله.
من أوجه الإعجاز التربوي في النص الكريم
يقول ربنا- تبارك وتعالى- في محكم كتابه :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ*) (إبراهيم:5).
وفي تفسير هذه الآية الكريمة ذكر ابن كثير- رحمه الله- ما مختصره: "وكما أرسلناك يا محمد وأنزلنا عليك الكتاب, لتخرج الناس من الظلمات إلى النور, كذلك أرسلنا موسى إلى بني إسرائيل بآياتنا. قال مجاهد هي التسع الآيات, (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ) أي: أمرناه قائلين له: (أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) أي: ادعهم إلى الخير ليخرجوا من ظلمات ما كانوا فيه من الجهل والضلال, إلى نور الهدى وبصيرة الإيمان, (وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ) أي بأياديه ونعمه عليهم, في إخراجه إياهم من أسر فرعون وقهره, وظلمه وغشمه, وإنجائه إياهم من عدوهم, وفلقه لهم البحر, وتظليله إياهم الغمام, وإنزاله عليهم المن والسلوى, إلى غير ذلك من النعم..."
والأيام كلها هي أيام الله, والمقصود هنا بتعبير (الأيام) هو الأحداث الكبرى في حياة الناس من النعم والنقم لأن العبرة من آيات القرآن هي بعموم اللفظ لا بخصوص السبب, ومن أعظم نعم الله- تعالى- على أهل الأرض جميعا كانت بعثة الرسول الخاتم- صلى الله عليه وسلم- الذي نحتفل بذكرى ميلاده الشريف في هذا الشهر المبارك, فقد ولد هذا الرسول الخاتم في وقت السحر من ليلة الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول سنة (53) قبل الهجرة (الموافق20/4/570م) في دار النابغة بمكة المكرمة, وكان هذا هو عام الفيل. وفي 27 من رمضان سنة (13) قبل الهجرة (الموافق 17/8/609 م) تلقى الوحي وبشر بالرسالة, وكان ذلك اليوم أعظم يوم من أيام الله, لأنه كان اليوم الذي استردت فيه البشرية صلتها بنور السماء بعد أن كانت قد فقدته بالكامل.
 وكان يتصدر دول العالم آنذاك دولتا الفرس والروم, وكان عرب الجزيرة قد انحرفوا عن التوحيد الذي دعا إليه كل من إبراهيم وولده إسماعيل- عليهما السلام- وجددوا عبادة الأصنام والأوثان التي كانوا قد ورثوها عن مشركي قوم نوح, ثم عن كل من البابليين, والفرس, والرومان, واليونان, كما عبدوا النجوم والكواكب. وبجوار هذه الوثنيات انتشرت المجوسية في بلاد فارس, كما انتشر كل من الزرادشتية, والمانوية, والمزدكية, والصابئة, والدهرية, وغيرها من العبادات الفاسدة والتي أخرج الشيطان بها كثيرا من الأمم من دائرة التوحيد الخالص لله الخالق- سبحانه وتعالى- إلى كثير من الانحرافات العقدية الموضوعة.
وكان من وراء فارس شرقا شبه القارة الهندية, ومن ورائها دولة الصين وبقية دول جنوب آسيا, وقد سادتها من الوثنيات القديمة كل من الهندوسية, والبوذية, والشنتووية, والكنفوشية, والطاوية, وغيرها من الفلسفات والمعتقدات الموضوعة.
وكان إلى الغرب من بلاد فارس الإمبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية), ومن ورائها نظيرتها الغربية. وكانوا قد انقسموا إلى العديد من الفرق والمذاهب المتصارعة. ومن وراء الإمبراطورية الرومانية الغربية كانت بقية دول العالم تحيا حياة بدائية همجية, لا تعرف لها عقيدة محددة ولا فكرا واضحا, ولا فلسفة حياتية معينة, ولا أثرا حضاريا يذكر. وذلك باستثتاء مصر التي كانت منبعا للفكر الفرعوني الذي اختلط فيه الحق بالباطل, ثم الفكر اليوناني الهيليني, ثم الفكر الروماني الغربي والشرقي. وقد اكتوى المصريون بنيران هذا الاحتلال الغريب الذي عاث في أرضهم فسادا واستعبادا حتى أنقذهم جيش من جيوش خاتم الأنبياء والمرسلين.
من هذا الاستعراض السريع لواقع العالم قبل بعثة سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- يتضح لنا بجلاء أنه كان عالما فاقدا لنور الهداية الربانية, تائها في دياجير الظلام والجهل والضياع, وظل يغوص فيها حتى فسدت العقائد, وانحرفت العبادات, وانحطت الأخلاق, وتدنت المعاملات, وأصبح العالم في أمس الحاجة إلى نور الهداية الربانية من جديد.
 والهداية الربانية علمها ربنا- تبارك وتعالى- لأبينا آدم- عليه السلام- لحظة خلقه,  وعاشت بها البشرية عشرة قرون كاملة قبل أن يتمكن الشيطان من فتنة نفر من قوم نوح بعبادة الأصنام والأوثان, فبعث الله- تعالى- إليهم عبده ونبيه نوحا- عليه السلام- ليردهم إلى توحيد الله من جديد فما آمن معه إلا أقل القليل ولذلك أغرقهم الله- تعالى-  بالطوفان .
وبعد طوفان نوح ظلت البشرية تتردد بين الإيمان والكفر , وبين التوحيد والشرك, والله- تعالى- يرسل الرسول تلو الرسول , والنبي تلو النبي, حتى بلغ عدد الأنبياء مائة وأربعا وعشرين ألفا , واصطفى الله- سبحانه وتعالى- من بينهم ثلاثمائة وبضعة عشر رسولا كان خاتمهم سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- الذي أخبر بذلك, ولذلك قال له ربنا- تبارك وتعالى- :
(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ *) (فاطر:24).
جاء المصطفى- صلى الله عليه وسلم- والأرض قد فقدت كل صلة لها بالهداية الربانية التي لا يمكن للإنسان العيش بدونها في سلام, أو أن يحقق رسالته على هذه الأرض بنجاح , فأعاد سيدنا محمد- عليه السلام- لأهل الأرض صلتهم بربهم وبهدايته لهم. من هنا كان ميلاده- صلى الله عليه وسلم- أعظم أيام الله, لأنه كان أعظم نعمة من الله- تعالى- على أهل الأرض جميعا: إنسهم وجنهم.
والاحتفال بذكرى ميلاد الرسول الخاتم- صلى الله عليه وسلم- يقتضي الإيمان بأن الله- تعالى- قد اصطفاه من بين جميع خلقه, وصقله بعدد من الابتلاءات من قبل أن يولد, وبعد ميلاده , وطوال يعثته الشريفة حتى هيأه لحمل الرسالة العظيمة التي اختاره الله- سبحانه وتعالى-  للقيام بها.
والذي يعلم ذلك لا بد له من الحرص الشديد على مدارسة السيرة العطرة لهذا الرسول الخاتم- صلى الله عليه وسلم- حتى يرى صورة الكمال البشري في أعلى درجاته فيحاول محاكاته قدر الاستطاعة, واتخاذه مثلا أعلى يحتذى. فيصبر إذا تعرض لشئ من الابتلاء, فقد لاقى سيدنا محمد- عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم- من صنوف الابتلاء ما لاقى وهو أحب خلق الله إلى الله, وكان أتقى الخلق لله, وأكثرهم وصلا به, وعبادة له- سبحانه وتعالى-  وكان أزهد الناس في الدنيا, ما سئل شيئا قط فقال: لا, وما عاب طعاما قط قدم إليه, وكان راسخ الإيمان, جم التواضع, كريم الخلق, شجاعا مقداما, ثابت العزم في السلم وفي الحرب, ثابت الشخصية في جميع المواقف, ملك قلوب صحابته, كما ملك إعجاب وتقدير أعدائه.
حوصر هو ومن آمن معه ثلاث سنوات كاملة في شعب بني هاشم فصبر واحتسب, وما لانت له قناة. حاربه كفار قريش وآذوه ومن معه , ثم لجأ إلى أهل الطائف فردوه ردا غير جميل فعاد إلى مكة في حماية أحد المشركين.
وقد عاش رسول الله- صلى الله عليه وسلم- (63) سنة , كان منها (40) سنة قبل البعثة الشريفة قضاها في عبادة فطرية واستقامة وطهر بإلهام من الله , وكان منها (23) سنة في النبوة والدعوة إلى دين الله, وفي عمل دؤوب حتى تمكن من إقامة دولة الإسلام على الأرض. وقد تحمل- في سبيل تحقيق ذلك- الهجرة من مكة إلى المدينة. ومن المدينة خاض ثلاثين معركة, وستين سرية وبعثا. وواجه خلال ذلك من الحروب العسكرية والنفسية, والحصار الاجتماعي والاقتصادي ما واجه, وتعرض لمحاولات القتل, وإلى مختلف الاتهامات المفتراة. ولكن لم يفت كل ذلك في عضده, ولم يضعف من عزيمته حتى من الله- تعالى-  عليه بفتح مكة الذي كان بابا لفتح بقية جزيرة العرب التي دان أهلها بالإسلام. وفاضت روحه الشريفة وهو يقول: " مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. اللهم اغفر لي وارحمني, والحقني بالرفيق الأعلى, اللهم الرفيق الأعلى" (ثلاث مرات)" .
ولعل في استعراض هذه السيرة العطرة ما يهون على المسلمين الشدائد التي يمكن أن يمروا بها, ويعينهم على الثبات في جميع الابتلاءات. ومن ذلك عدم احتقار إي عمل شريف يعف الإنسان عن الحاجة إلى غير الله, مهما تواضع هذا العمل. ولا يجوز لمسلم أن ينجرف إلى مزالق الفسادلمجرد شيوعه من حوله, بل لا بد من المفاصلة معه, والعزلة عنه, والتميز عليه. ولا يصح لمسلم أن يكون فاحشا ولا متفحشا, ولو شاع الفحش في محيطه , ولا أن يكون إمعة, إذا أحسن الناس أحسن, وإذا أساءوا أساء. ولا يجوز للمسلم أن يعيش هملا , لا يستطيع أن يترك بصمة على مجريات الأحداث من حوله, مهما تكالب عليه أهل الباطل, ولا أن يتخلى عن الدفاع عن نفسه وماله وعرضه ودينه مهما ووجه في ذلك بتحديات, فالحق لا بد وأن ينتصر مهما طال الزمن, ومهما تطاول عليه أهل الباطل ...!!!